على طريق إيجاد تسوية ملائمة ومقبولة من الطرفين
في تلك المـرحلة المبكرة من البحـث عـن حـل لقـضية فلسطين ، إذا كان الهـدف هـو إيجاد حـل لهـا وليس حـل فلسطين ، أي تفكـيكها للتخلص منها ، يجب أن نبدأ بالبحث عـن تسوية ملائمة للطرفين قبل أن نتحدث عـن سلام ، فالشروط الأساسية الواجب توفرها لإحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين غـير متوفرة في الوقت الحاضر. خاصة وأن الشعبان مختلفان تمام الإختلاف الواحد عن الآخر: فشعب منهم أوروبي بشكل عام ، والثاني شعـب تقليدي مثله مثل باقي شعـوب الشرق الأوسط . وإذا كان الشعبان يحبان تناول "الحمص بطحينة" ، فإن ذلك لا يعني أوتوماتيكيا أنه يمكنهما أي يتشاركا السرير!
هناك في الجانب العربي من يحلم بحـل للمشكل عن طريق دولة واحدة تجمع الطرفان على أمل أن يعمل التكاثر السكاني الطبيعي بين العرب على تخطي عـدد اليهود . هؤلاء يعيشون في أحـلام اليقـظة . أما أولئك في الجانب اليهـودي الذين يظنون أن الفلسطينيين سـوف يقبلوا أن يتحولوا إلى أغـوات وأن يتم تدجينهم في نطاق حـل يدورحول دولة واحدة وأن يصبحوا خدما ويدا عاملة رخيصة هـم يضا يحلمون .
من المؤسف أنه من بين العـرب والفلسطينيين هنالك من يحلم "بإلقاء اليهـود في البحـر" ، كما أنه هنالك بين اليهود من يحلم بحـل نهائي للقضية برمتها عن طريق ترحيل الفلسطينيين جملة وتفصيلا إلى البلدان المجاورة . ليس بمقدور العـرب أن يحققوا أحلامهم ، إلا أنه باستطاعة اسرائيل أن تحقـق ما تريد . ولعل ردود الفعل المتوقعة هي أن يعقد مجلس الأمن التابع لهيئة الأمـم المتحدة جلسة عاجلة لبحث الموضوع ولكن سرعان ما ترفع الجلسة نتيجة "فيتو" تدلي به إحدى الدول العظمى . هذا إلى جانب اجتماع عاجل لجامعة الدول العربية يقوم خلاله المندوبين بالصياح والزعيق ويقفزون أعلا وأسفل فبل أن يقيموا مآدب عشاء ويصدروا بلاغات "يطالبوا" فيها بكـذا و"يصـروا" في أخرى على شيء آخـر. كما أنه ربما تسنح الفـرصة لأحدهم للقيام بعقد مسابقة شـعـر على مستوى العالم العربي، إلا أن النتيجة بالنسبة للفلسطينيين ستكون ضياع وطنهم ضياعا كاما وتقوم مخيمات اللاجئين في بيروت وعـمـان باستقـبال مليوني لاجئ فلسطيني آخـر بالإضافة إلى ما تكتظ به . فهل هذا ما نريد؟ طبعا لا!
ذكــر في الأقصوصة الشهيرة "أليـس في بلاد العـجائب" التي ألفها الكاتب البريطاني تشارلز لاتفيدج دودجسون (المعـروف باسم لويس كارول) التي نشرها عام ١٨٦٥، ذكر أنه لما وجدت أليـس نفسها ضائعـة في الغـابة وقابلت القـط الجالس عـلى غـصن شجرة طرحت عـليه السؤال التالي: "عـفوا ، هل يمكنك أن تدلني إلى أين يجب أن أذهب انطلاقا من هنا ؟" أجابها القـط متهكما : "يعـتمد ذلك إلى حد كبير عـلى وجهتك التي تودين السير نحوها !"30 .فإذا أخذنا ذلك بعـين الإعتبار في مجرى البحث عن تسوية مقبولة من الطرفان ، يتعـين عـلينا أن نبدأ طريقنا بتحديد المعـنيين فيه ، ومن هـم المسؤولين ، وكيف ينظرون إلى بعـضهم البعـض ، وما هـو مبتغـاهم، وما هي مواقفهم وماذا يجب أن يحدث قبل أن نبدأ التحدث عـن تحقيق السلام بين الأعــداء .
مـن هـم المسـؤولـيـن
حـكـومتـا اسرائـيـل وحكـومتـا فـلسطـيـن
هناك حكـومتان لإسرائيل في العـالم ؛ حكومة اسرائيل المنتخـبة في الـقدس ، والحكومة القائمة باختيار أعـضائها في العـاصمة الأمريكية واشنطن ، أي "لجنة الشؤون العـامة الأمريكية الإسرائيلية المعـروفة باسم (AIPAC ) مع ما يتصل بها من مؤسسـات أخـرى ، بل ومنافسين أيضا . وتتمتع تلك اللجنة بنفوذ كبير في الولايات المتحدة يفوق نفوذ النقابات العـمالية واتحاد السلاح الوطني مجتمعة . وهي مكونة من ائتلاف يشمل مسؤولين حكوميين وإعـلاميين ورجال أعـمال وماليين بما في ذلك شخصيات من بين اليهـود وغـير اليهـود الذين تجمعـهم أهداف مشتركة .
ويديرعمليات (AIPAC ) أخصائيين متفرغـين وميزانية قوامها عـدة ملايين من الدولارات يأتي معـظمها من تبرعـات معـفاة من ضرائب الدخل يتم جعـها مباشرة أو غـير مباشرة من المواطنين أكانوا يهودا أم غـير يهود . ويساند هذا البنيان شبكة واسعـة من المتطوعـين العـاملين بكل جـد ، بعـضهم شديد التدين والبعـض الآخر لا يشكل الدين بالنسبة له عـاملا أساسيا ، والبعـض الآخر يحمله إيمانه إلى التطوع في جيش الدفاع الإسرائيلي وإن كان حاملا للجنسية الأمريكية.
تعـمل تلك المنظمات في أمريكا الشمالية على أساس ما تقرره هي عـلى أنه في مصلحة الجاليات اليهـودية ، معـتبرة أن تلك المصلحة مطابقة لمصلحة اسرائيل . ولكن ذلك ليس صحيحا في جميع الأحوال حيث أن سكان اسرائيل هم الذين تأتيهم الضربات وليس أولئك المقيمين في أمريكا الشمالية . وأحيانا تجـد حكومة اسرائيل أن تلك المنظمات وأعـمدتها في البيت الأبيض والكونجرس ومجلس الشيوخ وأجهزة المخابرات ووزارة الدفاع ووسائل الإعـلام ومختلف المعابد اليهودية والمؤسسات المالية ، تجد أن تلك المنظمات قد اختطفت سياستها مع الولايات المتحدة ، عـلما بأن تلك المنظمات يمكنها أن تتبنى أكثر المواقف تطرفا حسب رغـبتها ، وهكذا تفرض تلك المنظمات ضغـوطا عـلى الحكومات الإسرائيلية المنتخبة الواحدة تلـو الأخرى كي تقبل ما تقوله وما تفرضه عـلى أساس القول المأثور "ما هـو في صالح يهـود أمريكا هـو في صالح اسرائيل" .
في الوقت الذي قد تختلف فيه حكومة اسرائيل مع (AIPAC ) حول من يمثل اليهـود في العـاصمة الأمريكية ، فإن كلا من السفارة الإسرائيلية في واشنطن و (AIPAC ) يدركان تمام الإدراك أنهما في حاجة الواحد منهم إلى الآخر . حيث أن اسرائيل في حاجة إلى منظمات مثل (AIPAC ) وغـيرها مثل مؤتمر رؤساء المؤسسات الأمريكية اليهـودية الكبرى للحصول عـلى مبتغـاها من الحكومة الأمريكية وهو ما تحصل عـليه فعـلا ، كما تساعـد (AIPAC ) عـلى تحصيل جانبا من بلايين الدولارات التي تتسلمها اسرائيل منذ سنوات عـديدة من الولايات المتحدة والتي تبلغ ٥٠٠ر٤٦ دولار سنويا عـن كل مواطن اسرائيلي حسب تقارير الصحافة . ولكي تتمكن من تبرير وجودها وتسويغـه والإنفاق عـلى عـملياتها فإن (AIPAC ) تعـتمد عـلى الإيمان الشديد بين اليهـود بأن مساندة اسرائيل مثـوى مصدرها الإرادة الإلهـية .
هذا وتستند قـوة تلك المنظمات في أمريكا الشمالية عـلى عـدة أعــمدة وعـلى الأخص إمساكها بمقتل حكومة الولايات المتحدة والسلطة التشريعـية . وبطبيعـة الحال لا يقـرأي أمريكي بأن ذلك هو الواقـع31 .
وإذا كان هنالك من يعـتقد بأن حكومة الولايات المتحدة سوف تضع ضغـوطا ملموسة عـلى المدى الطويل عـلى اسرائيل للتفاهم مع الفلسطينيين إنما يعـيش أضغـاث أحلام . فحكومة الولايات المتحدة لا تساند سوى الأقوياء والمنظمين وأولئك الذين يدافعــون عـن مصالحهم بكل قواهم عـلى مدار الساعـة . والـدور الذي تلعبه (AIPAC) مثلا حيا لمثل هذا الصمود .
|