أبو الحسـن والـواقـع الـعـربـي
كان أبا الحسن وطنياً عربياً مخلصاً بكل ما لهذا التعبير من معنى . وإن لم يكن ملتزما دينيا ، فقد كان الإسلام بالنسبة له الإطار الحضاري والثقافي لهذه الأمة على اختلاف مكوناتها العرقية والدينية . وهكذا كان تعامله مع الأفراد أكانوا عرباً أو أكراداً أو من البربر أو من الهند أو من أندونيسيا أو من أفغانستان أو من المسيحيين أو المسلمين أو الدروز على اختلاف مللهم وأجناسهم دون أن يكون لاعتقاداتهم أو لما يعتنقونه من دين أي تأثير على علاقته بهم . وقد ذكر في كتاب "معتقل هاكستب" أن المسجونين المصريين اليهود الذين وضعوا في المعتقل الاحترازي خلال حرب فلسطين قد تعرفوا عليه عندما رأوه في المعتقل وبادروه التحية يوم العيد ! وهذا ما يفسر وقوفه بكامل جوارحه إلى جانب كل مظلوم في نضاله ضد الظلم والطغيان والاستعمار . وينعكس ذلك في مقالاته وكتبه وعلاقاته الإجتماعية التي تخطت كافة الحدود الجغرافية والدينية والعقائدية . حتى أنه أدخل ابنه مدارس الفرير الفرنسية المسيحية، وابنته مدارس الراهـبات في القاهرة وبيروت .
ونتيجةً لمواقفه المبدئية السياسية والوطنية الصلبة ضد الإستعمار وقفت منه الدول الإستعمارية مثل بريطانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا موقفاً معادياً ، وكثيراً ما تقدمت بالشكاوي ضده إلى الحكومة المصرية بسبب مناصرته للشعوب العربية والاسلامية الواقعة تحت استعمارهم . وقد حدث مرة أن تقدم سفير إيطاليا في القاهرة بشكوى إلى رئيس وزراء مصر مباشرة ، وكان وقتها محمد محمود باشا . حيث طلب السفير من رئيس الوزراء أن يُسْكِتَ أبا الحسن بحجة أنه "أجنبي يسيء استغلال أصول الضيافة في مصر لأنه يؤلب الشعب الليبي ضد الأيطاليين ، وأنه لا يجوز لمصر ، صديقة إيطاليا ، أن تسمح له بإساءة العلاقات بينها وبين حكومة الدوتشي بينيتو موسوليني". وقد أجابه محمد محمود باشا قائلا أن محمد علي الطاهر بحكم أنه عربي مقيم في مصر إنما هو في نظره مصرياً . وأضاف الباشا قائلاً أنه وإن لم يقابل محمد علي الطاهر في حياته بل يسمع به ، إنما يرى صواب وجهة نظره حيال الإستعمار وأنه يتفق معه الرأي في أن إيطاليا تسيء معاملة الليبيين .
هذا وتضمنت كتاباته نواح ودقائق عن الأسباب العربية التي أدت إلى ضياع فلسطين لم تتضمنها أي كتابات أخرى في زمنه مثل عدم كفاءة الحكومات العربية بشكل فاضح ، فضلا عن حالة واحدة على الأقل ثبت فيها التعامل الإجرامي مع العدو . بل حتى المؤرخين اليهود والاسرائيليون منهم قد غفل معظمهم أو تعمد إغفال مدى فداحة التقصير العربي ، سواء المتعمد أو غير المتعمد حيال فلسطين قبل وقوع النكبة كي يحصروا بطولة انتزاعها بينهم فقط . فعلى سبيل المثال نجد أن بعض المؤرخين الإسرائيليين والأردنيين يستمرون حتى اليوم في وصف الدور غير المقبول الذي لعبه الملك عبد الله الأول خلال سنوات النضال عندما كان يتآمر مع اليهود ضد الفلسطينيين على أنه دليل على حنكته وبعد نظره .
في حديث مع محرر مجلة "روز اليوسف" المصرية بتاريخ ١٥ مايو (ايار) ١٩٣٦ حول ثورة فلسطين الكبرى في تلك الأيام ، قال محمد علي الطاهر"إن فلسطين تثور اليوم وللمرة السادسة في مدة ١٥ عاما لإن الإنجليز يعملون على إخراج أهلها منها وإحلال اليهود محلهم ... أما ثورة ١٩٣٦ إنما هي ضد الإستعمار الإنجليزي .. ومبعثها الحس الوطني ، والشعور بالحاجة إلى الدفاع عن الكيان والوجود ، وحب البقاء في أرض الوطن .. فالإنجليز جاءوا فلسطين على أن يكونوا حلفاء للأمة العربية ، فإذا بهم يمتلكونها امتلاكا استعماريا ، ثم لم يكفهم ذلك ، بل أرادوا تأمين طريق جديد للهند على حسابنا ، ووضع حامية فيها لا تكلفهم شيئا ، فجاءوا بالصهيونيين من جميع أنحاء العالم ، وأقطعوهم أراضينا ، حتى بلغ عددهم ثلث عدد الأهالي ، وسيضحون الأكثرية بعد زمن قصير ." ثم أضاف قائلا : ".. كان أهالي فلسطين يخطئون في أول الأمر ، ويقاتلون اليهود على اعتبار أنهم أساس الشقاء ، كما حدث في ثورات فلسطين عام ١٩٢٠ و ١٩٢١ و ١٩٢٩ . ولكنهم فطنوا أخيرا إلى سبب البلاء الحقيقي وهو الإستعمارالإنجليزي فجعلوا ثوراتهم على الإنجليز رأسا كما حدث في سنوات ١٩٣٠ و ١٩٣٣ " . وقد أشار أبو الحسن في معرض حديثه مع مندوب "روز اليوسف" إلى أن الإنجليزكانوا ".. يجتهدون في إخفاء الأسباب الحقيقية للثورة فيزعمون أنها عبارة عن شغب بين العرب واليهود . يعني أن الإنجليز ملائكة لم يصنعوا شيئا سوى أنهم يحفظون الأمن ، ويمنعون اعتداء أحد الطرفين على الآخر ، على حين أن الجنود الإنجليز هم الذين يعتدون على الأهالي ، ويتصيدون المسلمين والمسيحيين بالرصاص ، حتى لو لم يتعرض لهم أحد" .
كما بين أبو الحسن عناد وقِصَرْ نظر بعض الزعامات الفلسطينية آنذاك ، ولم يتوانى عن توجيه اللوم حتى إلى صديقه القديم زعيم فلسطين الأكبر أي المفتي الحاج أمين الحسيني . كل ذلك مكّن اليهود ، كما كان يشار إليهم قبل قيام دولة اسرائيل وتسميتهم بالإسرائيليين ، مما مكنهم من الاستيلاء على فلسطين وانتزاعها من أهلها بسهولة نسبية بمنازلها المفروشة ومدارسها المؤثثة وسياراتها وحقولها المزروعة وبساتينها المثمرة ومحاصيلها التي لم يتمكن المزارعون الفلسطينيون من جنيها ، وماءها الجاري فوق الأرض وتحتها ، وموانئها بمراكبها ومطاراتها وشواطئها ، بل والأوكسـيجيـن الذي تتنفسه .
|
المناضل الفلسطيني عارف عبد الرازق مع أركان حربه
حمد زواتا و محمد العمر وأفراد الحرس الحديدي خلال ثورة ١٩٣٦ - ١٩٣٩ |